سورة النحل - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


لما ذكر تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} وذكر أشياء مما بين في الكتاب، ثم ذكر قوله: {من عمل صالحاً} ذكر ما يصون به القارئ قراءته من وسوسة الشيطان ونزغه، فخاطب السامع بالاستعادة منه إذا أخذ في القراءة. فإن كان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم لفظاً فالمراد أمته، إذ كانت قراءة القرآن من أجل الأعمال الصالحة كما ورد في الحديث: إن ثواب قراءة كل حرف عشر حسنات والظاهر بعقب الاستعاذة. وقد روى ذلك بعض الرواة عن حمزة، وروي عن ابن سيرين أنه قال: كلما قرأت الفاتحة حين تقول: آمين، فاستعذ. وروي عن أبي هريرة، ومالك، وداود. تعقبها القراءة كما روي عن حمزة والجمهور: على ترك هذا الظاهر وتأويله بمعنى: فإذا أردت القراءة. قال الزمخشري: لأنّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان بسبب قوى وملابسة ظاهرة كقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} وكقوله: «إذا أكلت فسم الله» وقال ابن عطية: فإذا وصلة بين الكلامين والعرب تستعملها في مثل هذا، وتقدير الآية: فإذا أخذت في قراءة القرآن فاستعذ، أمر بالاستعاذة. فالجمهور على الندب، وعن عطاء الوجوب. والظاهر: طلب الاستعاذة عند القراءة مطلقاً، والظاهر: أنّ الشيطان المراد به إبليس وأعوانه. وقيل: عام في كل متمرد عاتٍ من جن وإنس، كما قال شياطين الإنس والجن. واختلف في كيفية الاستعاذة، والذي صار إليه الجمهور من القراء وغيرهم واختاروه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لما روى عبد الله بن مسعود، وأبو هريرة، وجبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نه استعاذ عند القراءة بهذا اللفظ بعينه» ونفى تعالى سلطان الشيطان عن المؤمنين. والسلطان هنا التسليط والولاية، والمعنى: أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته كما قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وكما أخبر تعالى عنه فقال في قصة أوليائه: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} وقيل: المراد بالسلطان الحجة، وظاهر الإخبار انتفاء سلطنته على المؤمنين مطلقاً. وقيل: ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم منه. وقيل: ليس له قدرة أن يحملهم على ذنب، والضمير في به عائد على بهم، وقيل: على الشيطان، وهو الظاهر لاتفاق الضمائر والمعنى: والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله، أو تكون الباء للسبية، والأمر بالاستعاذة يقتضي أنها تصرف كيد الشيطان، كأنها متضمنة التوكل على الله والانقطاع إليه.
ولما ذكر تعالى إنزال الكتاب تبييناً لكل شيء، وأمر بالاستعاذة ند قراءته، ذكر تعالى نتيجة ولاية الشيطان لأوليائه المشركين، وما يلقيه إليهم من الأباطيل، فألقى أليهم إنكار النسخ لما رأوا تبديل آية مكان آية.
وتقدم الكلام في النسخ في البقرة. والظاهر أنّ هذا التبديل رفع آية لفظاً ومعنى، ويجوز أن يكون التبديل لحكم المعنى وإبقاء اللفظ. ووجد الكفار بذلك طعناً في الدين، وما علموا أنّ المصالح تختلف باختلاف الأوقات والأشخاص، وكما وقع نسخ شريعة بشريعة يقع في شريعة واحدة. وأخبر تعالى أنه العالم بما ينزل لا أنتم، وما ينزل مما يقره وما يرفعه، فمرجع علم ذلك إليه، وهو على حسب الحوادث والمصالح، وهذه حكمة إنزاله شيئاً فشيئاً، وهذه الجملة اعتراض بين الشرط وجوابه. قيل: ويحتمل أن يكون حالاً. وبالغوا في نسبة الافتراء للرسول بلفظ إنما، وبمواجهة الخطاب، وباسم الفاعل الدال على الثبوت، وقال: بل أكثرهم، لأن بعضهم يعلم ويكفر عناداً. ومفعول لا يعلمون محذوف لدلالة المعنى عليه أي: لا يعلمون أنّ الشرائع حكم ومصالح. هذه الآية دلت على وقوع نسخ القرآن بالقرآن. وروح القدس: هنا هو جبريل عليه السلام بلا خلاف، وتقدم لم سمي روح القدس. وأضاف الرب إلى كاف الخطاب تشريفاً للرسول صلى الله عليه وسلم باختصاص الإضافة، وإعراضاً عنهم، إذ لم يضف إليهم. وبالحق حال أي: ملتبساً بالحق سواء كان ناسخاً أو منسوخاً، فكله مصحوب بالحق لا يعتريه شيء من الباطل. وليثبت معناه أنهم لا يضطربون في شيء منه لكونه نسخ، بل النسخ مثبت لهم على إيمانهم، لعلمهم أنه جميعه من عند الله، لصحة إيمانهم واطمئنان قلوبهم يعلمون أنه حكيم، وأنّ أفعاله كلها صادرة عن حكمة، فهي صواب كلها. ودل اختصاص التعليل بالمسلمين على اتصاف الكفار بضده من لحاق الاضطراب لهم وتزلزل عقائدهم وضلالهم. وقرئ: ليثبت مخففاً من أثبت. قال الزمخشري: وهدى وبشرى مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت انتهى. وتقدم الرد عليه في نحو هذا، وهو قوله: {لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} وهدى ورحمة في هذه السورة. ولا يمتنع عطفه على المصدر المنسبك من أن والفعل، لأنه مجرور، فيكون وهدى وبشرى مجرورين كما تقول: جئت لأحسن إلى زيد وإكرام لخالد، إذ التقدير: لإحسان إلى زيد. وأجاز أبو البقاء أن يكون ارتفاع هدى وبشرى على إضمار مبتدأ أي: وهو هدى وبشرى. ولما نسبوه عليه السلام للافتراء وهو الكذب على الله، لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا ذلك الافتراء الذي نسبوه هو من تعليم بشر إياه، فليس هو المختلق بل المختلق غيره، وهو ناقل عنه. وظاهر قولهم: إنما أنت مفتر. إنّ معناه: مختلق الكذب، وهو ينافي التعلم من البشر، فيحتمل أن يكون قوله: مفتر، في نسبة ذلك إلى الله، ويحتمل أن يكونوا فيه طائفتين: طائفة ذهبت إلى أنه هو المفتري، وطائفة أنه يتعلم من البشر. ويعلم مضارع اللفظ ومعناه: المضي أي: ولقد علمنا، وجاء إسناد التعليم إلى مبهم لم يعين. فقيل: هو حبر غلام ورمى كان لعامر بن الحضرمي، وقيل: عائش أو يعيش، وكان صاحب كتب مولى حويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه قاله: الفراء، والزجاج.
وقيل: أبو فكيهة أعجمي مولى لمرأة بمكة. قيل: واسمه يسار وكان يهودياً قاله: مقاتل، وابن جبير، إلا أنه لم يقل كان يهودياً. وقال ابن زيد: كان رجلاً حداداً نصرانياً اسمه عنس. وقال حصين بن عبد الله بن مسلم: كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، يسار وحبر، كانا يقرآن كتباً لهما بلسانهم، وكان صلى الله عليه وسلم يمر بهما فيسمع قراءتهما. قيل: وكانا حدادين يصنعان السيوف، فقال المشركون: يتعلم منهما فقيل لأحدهما ذلك فقال: بل هو يعلمني، فقال ابن عباس: كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له: بلعام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه الإسلام فقالت قريش: هذا يعلم محمداً من جهة الأعاجم. وقال الضحاك: الإشارة إلى سلمان الفارسي، وضعف هذا من جهة أنّ سلمان إنما أسلم بعد الهجرة، وهذا السورة مكية إلا ما نبه عليه أنه مدني. واللسان: هنا اللغة. وقرأ الحسن: اللسان الذي بتعريف اللسان بأل، والذي صفته. وقرأ حمزة والكسائي: يلحدون من لحد ثلاثياً، وهي قراءة عبد الله بن طلحة، والسلمي، والأعمش، ومجاهد، وقرأ باقي السبعة، وابن القعقاع: بضم الياء وكسر الحاء من ألحد رباعياً وهما بمعنى واحد. قال الزمخشري: يقال ألحد القبر ولحده، فهو ملحد وملحوداً ذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه، ثم استعير لكل إمالة عن استقامة فقالوا: ألحد فلان في قوله: وألحد في دينه لأنه أمال دينه عن الأديان كلها، لم يمله من دين إلى دين. والمعنى: لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بين، وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة، ردّاً لقولهم وإبطالاً لطعنهم انتهى. وظاهر قول الزمخشري: إن اللسان في الموضعين اللغة. وقال ابن عطية: وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارحة. واللسان في كلام العرب اللغة، ويحتمل أن يراد وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارة. واللسان في كلام العرب اللغة، ويجتمل أن يراد في هذه الآية. وقال الكرماني: المعنى أنتم أفصح وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظماً ونثراً، وقد عجزتم وعجز جميع العرب، فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن؟
قال الزمخشري: (فإن قلت): الجملة التي هي قوله لبيان الذي يلحدون إليه أعجمي، ما محلها؟ (قلت): لا محل لها، لأنها مستأنفة جواب لقولهم، ومثله قول الله: أعلم، حيث يجعل رسالاته بعد قوله: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} انتهى. ويجوز عندي أن تكون جملة حالية فموضعها نصب وذلك أبلغ في الإنكار عليهم أي: يقولون ذلك والحالة هذه أي: علمهم بأعجمية هذا البشر وإبانة عربية هذا القرآن كان يمنعهم من تلك المقالة، كما تقول: تشتم فلاناً وهو قد أحسن إليك أي: علمك بإحسانه لك كان يقتضي منعك من شتمه.
وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف ولم يذهب إلى الحال، لأن من مذهبه أن مجيء الجملة الحالية الاسمية بغير واو شاذ، وهو مذهب مرجوح جداً، ومجيء ذلك بغير واو لا يكاد ينحصر كثرة في كلام العرب، وهو مذهب تبع فيه الفراء، وأما الله أعلم فظاهر قوله فيها، لأنها جملة خالية من ضمير يعود على ذي الحال، لأن ذا الحال هو ضمير قالوا، وفي هذه الآية ذو الحال ضمير يقولون، والضمير الذي في جملة الحال هو ضمير الفاعل في يلحدون، فالجملة وإن عريت عن الواو ففيها ضمير ذي الحال.


لما ذكر تعالى نسبتهم إلى الافتراء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنّ ما أتى به من عند الله إنما يعلمه إياه بشر، كان ذلك تسجيلاً عليهم بانتفاء الإيمان، فأخبر تعالى عنهم أنهم لا يهديهم الله أبداً إذ كانوا جاحدين آيات الله، وهو ما أتى به الرسول من المعجزات وخصوصاً القرآن، فمن بالغ في جحد آيات الله سد الله عليه باب الهداية. وذكر تعالى وعيده بالعذاب الأليم لهم، ومعنى لا يهديهم: لا يخلق الإيمان في قلوبهم. وهذا عام مخصوص، فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى. وقال الزمخشري: لا يهديهم الله لا يلطف بهم، لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة، لا من أهل اللطف والثواب انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. وقال ابن عطية: المفهوم من الوجود أنّ الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخبرتهما بتقبيح فعلهم والتشنيع بخطئهم، وذلك كقوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} والمراد ما ذكرناه، فكأنه قال: إن الذين لم يؤمنوا لم يهدهم الله انتهى. وقال القاضي: أقوى ما قيل في ذلك لا يهديهم إلى طريق الجنة، ولذلك قال بعده: ولهم عذاب أليم، والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار. وقال العسكري: يجوز أن يكون المعنى أنهم إن لم يؤمنوا بهذه الآيات لم يهتدوا، والمراد بقوله: لا يهديهم الله أي لا يهتدون، وإنما يقال: هدى الله فلاناً على الإطلاق إذا اهتدى هو، وأما من لم يقبل الهدى فإنه يقال: إن الله هداه فلم يهتد، كما قال: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} ثم ردّ تعالى قولهم: {إنما أنت مفتر} بقوله: إنما يفتري الكذب، أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن، لأنه يترقب عقاباً عليه. ولما كان في كلامهم إنما وهو يقتضي الحصر عند بعضهم، جاء الرد عليهم بإنما أيضاً، وجاء بلفظ يفتري الذي يقتضي التجدد، ثم علق الحكم على الوصف المقتضي للافتراء وهو: انتفاء الإيمان، وختم بقوله: وأولئك هم الكاذبون. فاقتضى التوكيد البالغ والحصر بلفظ الإشارة، والتأكيد بلفظ هم، وإدخال أل على الكاذبون، وبكونه اسم فاعل يقتضي الثبوت والدوام، فجاء يفتري يقتضي التجدد، وجاء الكاذبون يقتضي الثبوت والدوام. وقال الزمخشري: وأولئك إشارة إلى قريش هم الكاذبون، هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون. أو إلى الذين لا يؤمنون أي: وأولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب. أو أولئك هم الكاذبون عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء، لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين. أو أولئك هم الكاذبون في قولهم: إنما أنت مفتر انتهى.
والوجه الذي بدأ به بعيد، وهو أن وأولئك إشارة إلى قريش. والظاهر أن من شرطية في موضع رفع على الابتداء، وهو استئناف إخبار لا تعلق له بما قبله من جهة الإعراب. ولما كان الكفر يكون باللفظ وبالاعتقاد، استثنى من الكافرين من كفر باللفظ وقلبه مطمئن بالإيمان، ورخص له في النطق بكلمة الكفر إذ كان قلبه مؤمناً، وذلك مع الإكراه. والمعنى: إلا من أكره على الكفر، تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما بعده عليه تقديره: الكافرون بعد الإيمان غير المكرهين، فعليهم غضب. ويصح أن يكون الاستثناء من ما تضمنه جواب الشرط المحذوف أي: فعليهم غضب، إلا من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب، ولكنْ من شرح وكذا قدره الزمخشري أعني الجواب قبل الاستثناء في قول مَن جعل مَن شرطاً. وقال ابن عطية: وقالت فرقة مَن في قوله مَن كفر ابتداء، وقوله: من شرح تخصيص منه، ودخل الاستثناء لإخراج عمار وشبهه. ودنا من الاستثناء الأول الاستدراك بلكن وقوله: فعليهم، خبر عن مَن الأولى والثانية، إذ هو واحد بالمعنى لأن الإخبار في قوله: من كفر، إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر انتهى. وهذا وإن كان كما ذكر فهاتان جملتان شرطيتان، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك، فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على انفراده لا يشتركان فيه، فتقدير الحذف أحرى على صناعة الإعراب. وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله: {فسلام لك من أصحاب اليمين} وقوله: {فروح وريحان} جواب لأما، ولأنّ هذا وهما أداتا شرط، إحداهما تلي الأخرى، وعلى كون مَن في موضع رفع على الابتداء، يجوز أن تكون شرطية كما ذكرنا، ويجوز أن تكون موصولة وما بعدها صلتها، والخبر محذوف لدلالة ما بعده عليه، كما ذكرنا في حذف جواب الشرط. إلا أنْ من الثانية لا يجوز أنْ تكون شرطاً حتى يقدر قبلها مبتدأ لأنّ من وليت لكنْ فيتعين إذ ذاك أن تكون مَن موصولة، فإن قدر مبتدأ بعد لكن جاز أن تكون شرطية في موضع خبر ذلك المبتدأ المقدر كقوله:
ولكن متى يسترقد القوم أرفد ***
أي: ولكن أنا متى يسترقد القوم أرقد. وكذلك تقدر هنا، ولكن هم من شرح بالكفر صدراً أي: منهم. وأجاز الحوفي والزمخشري: أن تكون بدلاً من الذين لا يؤمنون، ومن الكاذبون. ولم يجز الزجاج إلا أن يكون بدلاً من الكاذبون، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام، فعلقه بما قبله. وأجاز الزمخشري أن يكون بدلاً من أولئك، فإذا كان بدلاً من الذين لا يؤمنون فيكون قوله: وأولئك هم الكاذبون، جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه، والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء.
وإذا كان بدلاً من الكاذبون فالتقدير: وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه، وإذا كان بدلاً من أولئك فالتقدير: ومَن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون.
وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة. لأنّ الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه، والوجود يقتضي أنّ من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن، وسواء كان ممن كفر بعد الإيمان أنه كان ممن لم يؤمن قط، بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب. وأما الثاني فيؤول المعنى إلى ذلك، إذ التقدير: وأولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه، والذين لا يؤمنون هم المفترون. وأما الثالث فكذلك. إذ التقدير: أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه، مخبر عنهم بأنهم الكاذبون. وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب على الذم انتهى. وهذا أيضاً بعيد، والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى. والمناسبة وفي قوله: إلا من أكره دليل على أنّ من فعل المكره لا يترتب عليه شيء، وإذا كان قد سومح لكلمة الكفر أو فعل ما يؤدي إليه، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى. وقد تكلموا في كيفية الإكراه المبيح لذلك، وفي تفصيل الأشياء التي يقع الإكراه فيها، وذلك كله مذكور في كتب الفقه. والمكرهون على الكفر المعذبون على الإسلام: خباب، وصهيب، وبلال، وعمار، وأبواه ياسر وسمية، وسالم، وحبر، عذبوا فأجابهم عمار وحبر باللفظ فخلى سبيلهما، وتمادى الباقون على الإسلام فقتل ياسر وسمية، وهما أول قتيل في الإسلام، وعذب بلال وهو يقول: (أحد أحد) وعذب خباب بالنار فما أطفأها إلا ودك ظهره. وجمع الضمير في فعليهم على معنى من، وأفرد في شرح على لفظها. والظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب أي: كائن لهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة. وقال الزمخشري: واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم انتهى. وهي نزغة اعتزالية. والضمير في بأنهم عائد على من في من شرح: ولما فعلوا فعل من استحب، ألزموا ذلك وإن كانوا غيره مصدقين بآخره، لكن من حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره. وقوله: استحبوا، هو تكسب منهم علق به العقاب، وأنّ الله لا يهدي إشارة إلى اختراع الله الكفر في قلوبهم، فجمعت الآية بين الكسب والاختراع، وهذا عقيدة أهل السنة. وقيل: ذلك إشارة إلى الارتداد والإقدام على الكفر، لأجل أنهم رجحوا الدنيا على الآخرة، ولأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان. وتقدم الكلام على الطبع على القلوب والسمع والأبصار والختم عليها. وأولئك هم الغافلون: قال ابن عباس: عن ما يراد منهم في الآخرة. وقال الزمخشري: الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم، لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها.
ولما كان الإسناد ليكتسب بالطاعات سعادة الآخر، فعمل على عكس ذلك من المعاصي الكفر وغيره عظم خسرانه فقيل فيهم: هم الخاسرون ولا غيرهم. ومن أخسر ممن اتصف بتلك الأوصاف السابقة من كينونة غضب الله عليهم، والعذاب الأليم، واستحباب الدنيا، وانتفاء هدايتهم، والإخبار بالطبع وبغفلتهم. ولما ذكر تعالى حال من كفر بعد الإيمان، وحال من أكره، ذكر حال من هاجر بعد ما فتن.
قال ابن عطية: وهذه الآية مدنية، ولا أعلم في ذلك خلافاً. وقال ابن عباس: نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم بمكة أنّ الله قد جعل لكم مخرجاً، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل، فعلى هذا السبب يكون جهادهم مع الرسول على الإسلام. وروي أنهم خرجوا واتبعوا وجاهدوا متبعيهم، فقتل من قتل، ونجا من نجا، فنزلت حينئذ، فعنى بالجهاد جهادهم لمتبعيهم. وقال ابن إسحاق: نزلت في عمار، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد. قال ابن عطية: وذكر عمار في هذا غير قويم، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما هؤلاء من باب ممن شرح بالكفر صدراً أفتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية. وقال عكرمة والحسن: نزلت في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه، فكأنه يقول: من بعد ما فتنهم الشيطان. وقال الزمخشري: ثم إن ربك دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك، وهم عمار وأصحابه. وللذين عند الزمخشري في موضع خبران قال: ومعنى إن ربك لهم إنه لهم لا عليهم، بمعنى أنه وليهم وناصرهم، لا عدوهم وخاذلهم كما يكون الملك للرجل: لا عليه، فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور انتهى. وقوله: منفوعاً اسم مفعول من نفع، وهو قياسه لأنه متعد ثلاثي. وزعم الأهوازي النحوي أنه لا يستعمل من نفع اسم مفعول، فلا يقال منفوع وقفت له عليه في شرحه موجز الرماني. وقال أبو البقاء: خبر إن الأولى قوله: إن ربك لغفور، وأن الثانية واسمها تكرير للتوكيد انتهى. وإذا كانت أنّ الثانية واسمها تكريراً للتوكيد كما ذكر، فالذي يقتضيه صناعة العربية أن يكون خبر إنّ الأولى هو قوله: لغفور، ويكون للذين متعلقاً بقوله: لغفور، أو برحيم على الأعمال، لأنّ إن ربك الثانية لا يكون لها طلب لما بعدها من حيث الإعراب. كما أنك إذا قلت: قام قام زيد، فزيد إنما هو مرفوع بقام الأولى، لأن الثانية ذكرت على سبيل التوكيد للأولى. وقيل: لا خبر لأن الأولى في اللفظ لأن خبر الثانية أغنى عنه انتهى. وهذا ليس بجيد، لأنه ألغى حكم الأولى وجعل الحكم للثانية، وهو عكس ما تقدم، ولا يجوز. وقيل: للذين متعلق بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل: أعني للذين، أي الغفران للذين.
وقرأ الجمهور: فتنوا مبنياً للمفعول أي: بالعذاب والإكراه على كلمة الكفر. وقرأ ابن عامر: فتنوا مبنياً للفاعل، والظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا، فالمعنى: فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول كما فعل عمار. أو لما كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم هم المعذبون أنفسهم، ويجوز أن يكون عائداً على المشركين أي: من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي وأشباهه. والضمير في مَن بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي: من بعد الفتنة والهجرة والجهاد والصبر. وقال ابن عطية: والضمير في بعدها عائد على الفتنة، أو الهجرة، أو التوبة، والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح.


يوم منصوب على الظرف، وناصبه رحيم، أو على المفعول به، وناصبه اذكر. والظاهر عموم كل نفس، فيجادل المؤمن والكافر، وجداله بالكذب والجحد، فيشهد عليهم الرسل والجوارح، فحينئذ لا ينطقون. وقالت فرقة: الجدال قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم: نفسي نفسي. قال ابن عطية: وهذا ليس بجدال ولا احتجاج، إنما هو مجرد رغبة. واختار الزمخشري هذا القول، وركب معه ما قبله فقال: كأنه قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره، كل يقول: نفسي نفسي. ومعنى المجادلة الاعتذار عنها كقولهم: {هؤلاء أضلونا ما كنا مشركين} {ما كنا مشركين} ونحو ذلك. وقال: يقال لعين الشيء وذاته نفسه، وفي نقيضه غيره، والنفس الجملة كما هي، فالنفس الأولى هي الجملة، والثانية عينها وذاتها. وقال ابن عطية: أي كل ذي نفس، ثم أجرى الفعل على المضاف إليه المذكور، فأثبت العلامة. ونفس الأولى هي النفس المعروفة، والثانية هي بمعنى البدن كما تقول: نفس الشيء وعينه أي ذاته. وقال العسكري: الإنسان يسمي نفساً تقول العرب: ما جاءني إلا نفس واحدة أي: إنسان واحد. والنفس في الحقيقة لا تأتي، لأنها هي الشيء الذي يعيش به الإنسان انتهى.
(فإن قلت): لِمَ لم يتعد الفعل إلى الضمير، لا إلى لفظ النفس؟ (قلت): منع من ذلك أنّ الفعل إذا لم يكن من باب ظن، وفقد لا يتعدى فعل ظاهر فاعله، ولا مضمره إلى مضمره المتصل، فلذلك لم يجيء التركيب تجادل عنها، ولذلك لا يجوز: ضربتها هند ولا هند ضربتها، وإنما تقول: ضربت نفسها هند، وضربت هند نفسها، ما عملت أي: جزاء ما عملت من إحسان أو إساءة، وأنث الفعل في تأتي، والضمير في تجادل وفي عن نفسها، وفي توفي، وفي عملت، حملاً على معنى كل، ولو روعي اللفظ لذكر. وقال الشاعر:
جادت عليها كل عين ثرة *** فتركن كل حديقة كالدرهم
فأنث على المعنى. وما ذكر عن ابن عباس: أنّ الجدال هنا هو جدال الجسد للروح، والروح للجسد لا يظهر قال: يقول الجسد: رب جاء الروح بأمرك به نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي، فتقول الرّوح: أنت كسبت وعصيت لا أنا، وأنت كنت الحامل وأنا المحمول، فيقول الله عز وجل: أضرب لكما مثل أعمى حمل مقعداً إلى بستان فأصابا من ثماره، فالعذاب عليكما. وعن ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد، وقتادة: أن القرية المضروب بها المثل مكة، كانت لا تغزي ولا يغار عليها، والأرزاق تجلب إليها، وأنعم الله عليها بالرسول صلى الله عليه وسلم فكفرت، فأصابها السنون والخوف. وسرايا الرسول وغزواته ضربت مثلاً لغيرها مما يأتي بعدها. وهذا وإن كانت الآية مدنية، وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب بسبب التكذيب.
ويؤيد كونها مكية قوله: ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه، ويجوز أن يكون قرية من قرى الأولين. وعن حفصة: أنها المدينة. وقال ابن عطية: يتوجه عندي أنها قصد بها قرية غير معينة، جعلت مثلاً لمكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة. وقال الزمخشري: يجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن يكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها، فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها انتهى. ولا يجوز أنْ يراد قرية مقدرة على هذه الصفة، بل لا بد من وجودها لقوله: ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون. كانت آمنة ابتدأ بصفة الأمن، لأنه لا يقيم لخائف. والاطمئنان زيادة في الأمن، فلا يزعجها خوف. يأتيها رزقها أقواتها واسعة من جميع جهاتها، لا يتعذر منها جهة. وأنعم جمع نعمة، كشدّة وأشد. وقال قطرب: جمع نعم بمعنى النعيم، يقال: هذه أيام طعم ونعم انتهى. فيكون كبؤس وأبؤس. وقال الزمخشري: جمع نعمة على ترك التاء، والاعتداد بالتاء كدرع وأدرع. وقال العقلاء: ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن، والصحة والكفاية. قال أبو عبد الله الرازي: أمنة إشارة إلى الأمن، مطمئنة إشارة إلى الصحة، لأن هواء ذلك لما كان ملازماً لأمزجتهم اطمأنوا إليها واستقروا، يأتيها رزقها السبب في ذلك دعوة إبراهيم عليه السلام: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات} وقال: الأنعم جمع نعمة وجمع قلة، ولم يأت بنعم الله وذلك أنه قصد التنبيه بالأدنى على الأعلى بمعنى أنّ كفران النعم القليلة أوجب العذاب، فكفران الكثيرة أولى بإيجابه. قال ابن عطية: لما باشرهم ذلك صار كاللباس، وهذا كقول الأعشى:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها *** تثنت فكانت عليه لباسا
ونحو قوله تعالى: {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن} ومنه قول الشاعر:
وقد لبست بعد الزبير مجاشع *** ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما
كأن العار لما باشرهم ولصق بهم جعلهم لبسوه. وقوله: فأذاقها الله، نظير قوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} ونظير قول الشاعر:
دونك ما جنيته فاحس وذق ***
وقال الزمخشري: الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس فما وجه صحة إيقاعها؟ (قلت): أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وإذاقة العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع. وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث. وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة: عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في نحو هذا طريقان: أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظر إليه ههنا، ونحوه قول كثير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً *** غلقت لضحكته رقاب المال
استعار الرداء للمعروف، لأنه يصون عرض صاحبه، صون الرداء لما يلقى عليه. ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال، لا صفة الرداء، نظراً إلى المستعار له. والثاني: أن ينظروا فيه إلى المستعار كقوله:
ينازعني ردائي عبد عمرو *** رويدك يا أخا عمرو بن بكر
لي الشطر الذي ملكت يميني *** ودونك فاعتجر منه بشطر
أراد بردائه سيفه ثم قال: فاعتجر منه بشطر، فنظر إلى المستعار في لفظ: الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل: فكساهم لبس الجوع والخوف، ولقال كثير: ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً انتهى. وهو كلام حسن. ولما تقدم ذكر الأمن وإتيان الرزق، قابلهما بالجوع الناشئ عن انقطاع الرزق وبالخوف. وقدم الجوع ليلى المتأخر وهو إتيان الرزق كقوله: {يوم تبيضّ وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم} وأما قوله: {فمنهم شقي وسعيد} فأما الذين شقوا ففي النار فقدم ما بدئ به وهما طريقان. وقرأ الجمهور: والخوف بالجرّ عطفاً على الجوع. وروي العباس عن أبي عمرو: والخوف بالنصب عطفاً على لباس. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاب وإقامة المضاف إليه مقامه، أصله ولباس الخوف. وقرأ عبد الله فأذاقها الله الخوف والجوع، ولا يذكر لباس. والذي أقوله: إنّ هذا تفسير المعنى لا قراءة، لأن المنقول عنه مستفيضاً مثل ما في سواد المصحف. وفي مصحف أبي بن كعب لباس الخوف والجوع، بدأ بمقابل ما بدأ به في قوله: كانت آمنة، وهذا عندي إنما كان في مصحفه قبل أن يجمعوا ما في سواد المصحف الموجود الآن شرقاً وغرباً، ولذلك المستفيض عن أبي في القراءة إنما هو كقراءة الجماعة بما كانوا يصنعون من كفران نعم الله، ومنها تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاءهم. والضمير في بما كانوا يصنعون عائد على المحذوف في قوله: وضرب الله مثلاً قرية، أي: قصة أهل قرية، أعاد الضمير أولاً على لفظ قرية، ثم على المضاف المحذوف كقوله: {فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون} والظاهر أن الضمير في ولقد جاءهم، عائد على ما عاد عليه في قوله: بما كانوا يصنعون. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون الضمير في جاءهم لأهل تلك المدينة، يكون هذا بما جرى فيها كمدينة شعيب عليه السلام وغيره، ويحتمل أن يكون لأهل مكة. وقال أبو عبد الله الرازي: لما ذكر المثل قال: ولقد جاءهم يعني أهل مكة رسول منهم يعني من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه، ولما وعظ تعالى بضرب ذلك المثل وصل هذا الأمر للمؤمنين بالفاء، فأمر المؤمنين بأكل ما رزقهم وشكر نعمته ليباينوا تلك القرية التي كفرت بنعم الله. ولما تقدم فكفرت بأنعم الله جاء هنا: واشكروا نعمة الله. وفي البقرة جاء: {يا أيها الذين آمنوا كلوا مما رزقناكم} لم يذكر من كفر نعمته فقال: {واشكروا الله} ولما أمرهم بالأكل مما رزقهم، عدد عليهم محرماته تعالى ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه. وكذا جاء في البقرة ذكر ما حرم إثر قوله: كلوا مما رزقناكم. وقوله: إنما حرم الآية تقدّم تفسير مثلها في البقرة.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9